انتقال مريم العذراء الى السماء، عيد وعقيدة
المطران باسيليوس يلدو
تحتفل الكنيسة الكاثوليكية في الخامس عشر من اب/ أغسطس من كل عام بعيد انتقال مريم العذراء الى السماء بالنفس والجسد، وهو من الاعياد المريمية الاكثر قدما واهمية.
وبدايات الاحتفال بهذا العيد في الشرق المسيحي يعود الى القرن الخامس الـميلادي. أمـا الحديث عن العذراء وبتوليتها وموتهـا وانتقالها فقد جاء ذكره في بعض كتابات اباء الكنيسة مثل (اغناطيوس الانطاكي ويوستينوس وايريناوس)، والتي يرجع تاريخها للقرن الثاني الـميلادي.
واستمر تقليد الكنيسة والاباء بإكرام العذراء مريم واعطاء اهمية لأعيادها ومنهم عيد الرقاد (الانتقال) الى ان بادر البابا بيوس الثاني عشر في عام 1946، بأخذ آراء الأساقفة الكاثوليك في العالم أجمع بشأن تحديد عقيدة انتقال مريم العذراء بنفسها وجسدها إلى السماء، فتقبّل معظم أساقفته هذه البادرة البابوية بفرح. وانصبّ اللاهوتيون على دراسة هذه المسألة باهتمام بالغ، الى ان اعلن البابا عقيدة انتقال العذراء بالنفس والجسد الى السماء في الاول من نوفمبر سنة 1950:
“إن والـدة الإلـه المنـًزهـة عـن كـل عيـب، مـريـم الدائـمـة البـتـوليـة، بعـد أن أنهـت مـجـرى حـيـاتـهـا الأرضــيـة، رٌفـعـت بجسـدهـا ونفـسـها إلـى المجـد السمـاوي”.
إن إعـلان هـذه العقيدة يعبـر بشكل واضح عن إيمان الكنيسة منذ القرون الأولـى. وهـذا الانتقال كما يقول المجمع الفاتيكاني الثاني هو “علامة رجاء وطيد”، رجاء في أن قيامة الأموات بفضل يسوع المسيح ستتم وتحدث، وانتقال مريم الى السماء بجسدها وروحها علامة لقيامة البشر.
بالحقيقة هذه العقيدة لا تستند الى أيّة شهادة كتابية او علمية، فقليل ما تحدثت الأناجيل عن العذراء مريم، فلا ذكر لرقادها أو موتها أو قيامتها أو انتقالها الى السماء! ويرى البعض أن الأسفار المقدّسة أتت على ذكر امتيازاتها بطريقة مبطّنة ضمنية ولا سيما في سفر التكوين: “انتصار العذراء مع ابنها على الخطيئة والموت”(تك 3: 1 – 16). وفي إنجيل لوقا: “مريم ممتلئة نعمة ومباركة في النساء” (لو 1: 28)، وفي رسالة القديس بولس الى أهل روما (الفصل 8)، ورؤيا القديس يوحنا عن المرأة والتنين (الفصل 12).
ولبيان تاريخ عقيدة انتقال مريم العذراء إلى السماء لابد من ذكر بعض المصادر:
1. مار أفرام، أول من أثار مسألة وفاة مريم: لم يذكر شيئاً، عمّا إذا كانت ماتت أو بقيت خالدة … يبدو انه لا يعرف أي تقليد قبله.
2. عيد الرُّقاد، أن إعلان مريم (أم الله) في مجمع أفسس، وان جسد العذراء المجيدة وَلَد الله، مَهَّد الطريق لتفهم وَفاتها المجيدة. ونحو عام 425 وقبل انعقاد مجمع أفسس بات معروفاً بأن كنيسة أورشليم أقامت عيد السيدة العذراء “التي صارت منذ 550 عيد الرُّقاد”.
3. قبر العذراء، هناك مكانان يقال إنهما لقبر مريم العذراء: أفسس مدينة (رؤيا يوحنا) وهو متصل بمجمع 431 التي أُعلنت فيه أم الله. وكذلك إنجيل يوحنا يشير للتلميذ الذي استقبلها ببيته.
ولكن كان هناك تقليد أقدم ورد فيه أن قبر العذراء هو في أورشليم، وورد في التاريخ الأفتيمي، الذي استشهد به مار يوحنا الدمشقي في القرن الثامن، ان بطريرك أورشليم جوفينال، الذي حضر في 451 المجمع الخلقيدوني والذي كان حاضراً بعدئذٍ في القسطنطينية، تلقى طلباً من الإمبراطور مرقيانس ومن زوجته لذخائر العذراء. فأجاب جوفينال ان قبر مريم في أورشليم وُجِد فارغا. وبعد قليل، أرسل إلى الإمبراطور أكفانا وُجِدت في ذلك القبر.
4. المؤلفات المنحولة في موضوع الرُّقاد، كثر عددها وتضاعف منذ أواخر القرن الخامس الميلادي. تروي الأخبار موت مريم العذراء، وقد حفت بها الأعاجيب وتبعها إما حفظ جسدها النيِّر من الفساد في القبر، وإما نقلها إلى الفردوس الأرضي (حوّاء الجديدة).
5. العظات البيزنطية، جميع هذه العظات (ما عدا عظة واحدة) تروي:
ـ موت مريم نقلاً عن المؤلفات المنحولة. ورفع جسدها للسماء.
ـ دفنها في وادي الجتسمانيَّة بأورشليم حيث كان مزار قسطنطين.
6. في الغرب، في أواخر القرن السابع الميلادي، أدخل البابا سرجيون (وهو من اصل سرياني) إلى روما عيد الرقاد الذي سمي فيما بعد بعيد “الانتقال”.
بالاضافة الى كل ذلك ففي كتابات الأباء الأوائل فى الكنيسة وخاصة ما هو معروف بـ”إنتقال مريمTransitus Marie ” والموجود بعدة لغات منها السريانية واليونانية واللاتينية والعربية والذي يرجع تاريخ كتابته الى القرن الرابع والخامس الميلادي، كلها تجمع على الإيمان بإنتقال مريم للسماء. لقد وقف آباء الكنيسة الأوائل بشدة فى وجه الخرافات والبِدع والهرطقات حفاظاً على ما تسلّموه من الإيمان القويم من الرسل.
ان انتقال مريم العذراء هو تحقيق للنبوءة التي قيلت على لسان القديسة اليصابات: “طوبى للتي آمنت لأنه سيتم ما قيل لها من قِبل الرب” (لوقا 1: 45)، فها ان كل الوعود التي قيلت من قِبل الرب للمؤمنين به قد تحققت للعذراء، ونالت هذه النِعم السماوية بأن تُصبح أماً ليسوع وأن تدوم بتوليتها وان يٌحبل بها بلا وصمة الخطيئة الأولى وان تكون أماً لله وللكنيسة، واخيراً انتقالها بالنفس والجسد للمجد السماوي .
ان عقيدة انتقال مريم العذراء للسماء مرتبطة بعقيدة عصمتها من دنس الخطيئة الأصلية وايضا عقيدة بتوليتها الدائمة، فحيث ان مريم قد حُبل بها بلا دنس الخطيئة الأصلية فهي لا تعاني تبعاتها وآثارها والتي منها انحلال الجسد في القبر، وحيث ان مريم قد حبلت بالمسيح وهى عذراء وولدته بـمعجزة وظلت عذراء فلا يمكن قبول ان جسده الذي تقدّس بقدوس الله يعاني فساداً.
واخيراً نسأل ولكن لماذا الانتقال؟ فيجيب القديس يوحنا الدمشقي من القرن الثامن الميلادي: “كما أن الجسد المقدّس النقي، الذي اتخذه الكلمة الإلهي من مريم العذراء، قام في اليوم الثالث، هكذا كان يجب أن تُؤخذ مريم من القبر، وأن تجتمع الأم بابنها في السماء”.
وختاماً “تبقى مريم، أمنا، هي كُليِّة الجمال لأنها الممتلئة نعمة” (البابا فرنسيس).